فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لذلك يقول الحق سبحانه: {واغلظ عَلَيْهِمْ} ولا تأخذك بهم رأفة؛ لأن الرأفة قد تغرى بالذنب؛ والمثال: حين يسرق الإنسان ثم تتركه بلا عقاب فقد يغريه ذلك ويغري غيره على السرقة. ولكن تنفيذ العقوبة ولو مرة واحدة، إنما يمثل رادعًا وحماية للمجتمع كله، ولذلك نجد أن عقاب القاتل بالقتل أنفى للقتل، وأنت حين تأتي بالقاتل وتقتله أمام عدد من الناس، فهذا العمل يمنع أي إنسان أن يفكر في القتل، أو أن يقتل.
إذن: فنحن بالعقوبة نحمي المجتمع من أن تنتشر فيه الجرائم.
وبعض السطحيين يقول لك: هل مَنْ يسرق تُقطع يده؟ نقول لهم: نعم؛ لأنني لو قطعت يد فرد لمنعت جريمة السرقة في المجتمع، فليس الهدف أن أقطع يدًا. ولكن الهدف هو ألا يسرق أحد، وأنت حين تأتي بالعقوبة وتتأكد من الجريمة؛ إياك أن تأخذ الرحمة في تنفيذ العقاب. فلو أخذتك الرحمة في هذه اللحظة فأنت تشجع الجريمة. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2].
ولكن الحوار حول العقوبات في الإسلام لا يتوقف، ونقول لهؤلاء: هل هناك مجتمع ليس فيه تجريم أو عقوبات؟ وانظر إلى المجتمعات غير الدينية، ألا توجد بها جرائم وعقوبات؟ إن كل مجتمع إنما يحمي نفسه بتوصيف الأفعال التي تعتبر جرائم، ويضع لها عقوبات، ولا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص.
إذن: فكل دولة وكل مجتمع لابد أن تكون فيه عقوبات، وإلا أصبحت الحياة فوضى يستحيل معها العيش في أمان. فإذا كان حاكم أي دولة بسيطة قد وضع تجريمًا وعقوبات، وهو يحكم فيما لا يملك، أفليس لله أن يضع التوصيف لما يرى أنه جرائم، وأن يُشرِّع العقوبة الملائمة لكل جريمة، وهو سبحانه يحكم فيما يملك؟ وإذا كان سبحانه قد حكم بقطع يد هو خالقها؛ فهو أراد ذلك ليمنع ملايين الأيدي من أن تمتد إلى مال الغير.
ولذلك يجب ألا تطول الفترة بين تنفيذ العقوبة ووقت وقوع الجريمة؛ لأن الذي يتعب الناس في الدنيا، هو طول الإجراءات والأخذ والرد، فينسى النساس الجريمة، وتأخذهم الشفقة والرحمة بالمجرم، مع أنه لو وُقِّعتْ العقوبة فور حدوث الجريمة؛ لما طلب أحد الرأفة بالمجرم.
والحق تبارك وتعالى يقول: {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} وقد عرفنا كيف يكون الجهاد مع الكافرين، فماذا يكون الجهاد مع المنافقين وهم الذين يتظاهرون بالإيمان؟
نقول: إن الجهاد معهم هو توقيع العقاب عليهم، وقد كان المنافقون يرتكبون الإثم، ويسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينكرونه، فيصفح عنهم، ويوضح الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: اغلظ عليهم إذا ارتكبوا إثمًا، وقد وجدنا في سورة التوبة أن المنافقين يحلفون كذبًا في كثير من الأمور، فيذكر الحق سبحانه: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ...} [التوبة: 56].
{يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر...} [التوبة: 74].
{يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ...} [التوبة: 62].
وفي سورة المجادلة يقول سبحانه: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فكأنما كلما حلفوا صدَّقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، ففضحهم الله بأنهم كاذبون، وطلب من رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُغلظ عليهم في العقوبة. ولكن هل غلظة الرسول صلى الله عليه وسلم معهم تعفيهم من عقاب الآخرة؟ نقول: لا لأن الغلظة عليهم في الدنيا لضمان سلامة حركة الحياة، وليعلم كل منافق أنه مفضوح من الله. ولكن هذا لا يعفي من عذاب الآخرة.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} والمصير هو المرجع الأخير لأي شيء، وكل عقوبة يكون لها مظنة ألا تمتد إلى الفترة المقررة لها، فالذي عاقب قد يعفو، وقد يخرج الإنسان قبل انتهاء مدة العقوبة؛ كأن يكون هناك إفراج صحي، أو بقضاء ثلاثة أرباع المدة أو غير ذلك. ولكن العقوبة للمنافقين تكون بلا خروج، وفي هذا ترهيب منها؛ لأنك لو علمت يقينًا أن العقوبة أبدية، فسوف تخشى الإقدام على الجريمة. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)}
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {يا أيها النبي جاهد الكفار} قال: بالسيف {والمنافقين} قال: باللسان {واغلظ عليهم} قال: اذهب الرفق عنهم.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: {جاهد الكفار والمنافقين} قال: بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليلقه بوجه مكفهر.
وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن ابن مسعود قال: لما نزلت {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجاهد بيده، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر.
وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: {جاهد الكفار} قال: بالسيف {والمنافقين} بالقول باللسان {واغلظ عليهم} قال: على الفريقين جميعًا، ثم نسخها فأنزل بعدها {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} [التوبة: 123].
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجاهد الكفار بالسيف، ويغلظ على المنافقين في الحدود. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)}
قوله تعالى: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}: قال أبو البقاء: إن قيل: كيف حَسُنَتِ الواوُ هنا، والفاء أشبه بهذا الموضع؟ ففيه ثلاثة أجوبة. أحدُها: أن الوَاوَ واو الحال والتقدير: افعل ذلك في حال استحقاقِهم جهنم، وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم. والثاني: أن الواوَ جيْءَ بها تنبيهًا على إرادة فعلٍ محذوف تقديره: واعلمْ أنَّ مأواهم جهنم. الثالث: أنَّ الكلامَ قد حُمل على المعنى، والمعنى: أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلطة وعذابُ الآخرةَ بجَعْلِ جهنم مأواهم، ولا حاجةَ إلى هذا كلِّه، بل هذه جملةٌ استئنافية. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)}
دعا نَبِيُّنا صلى الله عليه وسلم كافةَ الخَلْقِ إلى حُسْن الخُلُق.
قال لموسى عليه السلام: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} [طه: 44].
وقال لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم: {واغلُظْ عليهم} [التحريم: 9] ويقال إنما هذا بعد إظهار الحجج، وبعد أن أزاح عُذْرَهُم بأيام المهلة؛ ففي الأول أَمَرَه بالرِّفق حيث قال: {إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ} [سبأ: 46]، فلما أصروا واستكبروا أَمَرَه بالغِلظة عليهم. والمجاهدة أولها اللسان لشرح البرهان، وإيضاح الحجج والبيان، ثم إنْ حَصَلَ من العدوِّ جُحْدٌ بعد إزاحة العذر، فبالوعيد والزجر، ثم إنْ لم ينجعْ الكلامُ ولم ينفع الملامُ فالقتالُ والحربُ وبَذْلُ الوسعِ في الجهاد. اهـ.

.تفسير الآية رقم (74):

قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أتى بالدليل العام على إجرمهم، أتبعه الدليل الخاص عليه وهو أيضًا دليل على دليل فقال: {يحلفون بالله} أي الملك الأعلى الذي لا شيء أعظم منه قدرًا {ما قالوا} أي ما وقع منهم قول، فقصر الفعل تعميمًا للمفعول إعلامًا بأنهم مهما عنفوا على قول كائنًا ما كان بادروا إلى الحلف على نفيه كذبًا لأنهم مردوا على النفاق فتطبعوا بأعلى الكذب ومرنوا على سيئ الأخلاق، فصار حاصل هذا أنهم أطعموا في العفو وحذروا من عذاب الباقين بسبب إجرامهم لأنهم يأمرون بالمنكر وما يلائمه مقتفين آثار من قبلهم في الانهماك في الشهوات غير مقلعين خوفًا من الله أن يصيبهم بمثل ما أصابهم ولا رجاء له أن ينيلهم مما أعد للمؤمنين مجترئين على الأيمان الباطلة بأعظم الحلف على أيّ شيء فرض سواء كان يستحق اليمين أو لا غير خائفين من الله أن يهتكهم كما هتك غيرهم ممن فعل مثل أفعالهم؛ ثم دل على عظيم إجرامهم وما تضمنه قوله: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض}- الآية، من كبائر آثامهم، ويجوز أن تكون هذه الاية واقعة موقع التعليل للآية التي قبلها بأنهم يقدمون على ما يستحقون به الجهاد والغلظة والنار من الحلف كذبًا على نفي كل ما ينقل عنهم استخفافًا بالله وبأسمائه {اتخذوا أيمانهم جنة} [المجادلة: 6] فتكون جوابًا لمن كأنه قال: أما جهاد الكفار فالأمر فيه واضح، وأما المنافقون فكيف يجاهدون وهم يتكلون بلفظ الإيمان ويظهرون أفعال أهل الإسلام فقال: لأنهم يحلفون {ولقد} أي والحال أنهم كاذبون لقد {قالوا كلمة الكفر} أي الذي لا أكبر في الكفر منه، وهي تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما كان هذا السيافق لصنف يجددون الاستخفاف بالله تعالى- بما دل عليه المضارع كل وقت، دل على أن إقرارهم بالإيمان كذب وأفعالهم صور لا حقائق لها، فعبر بالإسلام فقال: {وكفروا} أي اظهروا الكفر {بعد إسلامهم} أي بما ظهر من أفعالهم وأقوالهم، وذلك غاية الفجور؛ ولما كان أعلى شغف الإنسان بشيء ان تحدثه نفسه فيه بما لا يصل إليه، فيكون ذلك ضربًا من الهوس قال: {وهموا بما لم ينالوا} أي من قتل الرسول صلى الله عليه وسلم أو إخراجه من المدينة، فجمعوا بين أنواع الكفر القول والفعل والاعتقاد، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير في {مأواهم} والتقدير على هذا: يدخلون جهنم حالفين بالله: ما قالوا كلمة الكفر، ولقد قالوها، فيكون كقوله: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23].
ولما بين من أحوالهم التي لا يحمل على فعلها إلا أمر عظيم، قال: {وما} أي قالوا وفعلوا والحال انهم ما {نقموا} أي كرهوا شيئًا من الأشياء التي أتتهم من الله: {إلا أن أغناهم الله} أي الذي له جميع صفات الكمال وهو غني عن العالمين {ورسوله} أي الذي هو أحق الخلق بأن يجوز عظمة الإضافة إليه سبحانه، وكان أذاهم هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله مع إعطائه لهم ما أغناهم بخلاف الآية السابقة، فكان الأقعد في ذمهم تأخير قوله: {من فضله} فهو من باب: ولا عيب فيهم.
ولما نبه على أن هذه المساوئ قابلوا بها المحسن إليهم، رغبهم بأنه قابل المتاب عليهم، ورهبهم بأنه لا مرد لما يريد من العذاب بقوله: {فإن يتوبوا} ولما كان المقام جديرًا بأن يشتد تشوف السامع إلى معرفة حالهم فيه، حذف نون الكون اختصارًا تنبيهًا على ذلك فقال: {يك} أي ذلك {خيرًا لهم} من إصرارهم.
ولما كان للنفوس من أصل الفطرة الأولى داعية شديدة إلى المتاب، وكان القرآن في وعظه زاجرًا مقبول العتاب عظيم الأخذ بالقلوب والعطف للألباب، أشار إلى ذلك بصيغة التفعيل فقال: {وإن يتولوا} أي يكلفوا أنفسهم الإعراض عن المتاب {يعذبهم الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا بحوله وقوته {عذابًا أليمًا} أي لا صبر لهم عليه {في الدنيا} أي بما هم فيه من الخوف والخزي والكلف وغيرها {والآخرة} أي بالعذاب الأكبر الذي لا خلاص لهم منه {وما لهم في الأرض} أي التي لا يعرفون غيرها لسفول هممهم {من وليّ} أي يتولى أمورهم فيصلح ما أفسد العذاب منهم أو يشفع لهم {ولا نصير} أي ينقذهم؛ وأما السماء فهم أقل من أن يطمعوا منها بشيء ناصر أو غيره وأغلظ أكبادًا من أن يرتقي فكرهم إلى ما لها من العجائب وما بها من الجنود؛ وسبب نزول الآية على ما قال ابن عباس- رضى الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسًا في ظل شجرة فقال: سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أرزق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله.
ما قالوا، فأنزل الله الآية؛ وقال الكلبي: نزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين فسماهم رجسًا وعابهم فقال الجلاس: لئن كان محمدًا صادقًا لنحن شر من الحمير، فسمعه عامر بن قيس فقال: أجل، إن محمدًا لصادق وأنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قاله الجلاس، فقال الجلاس: كذب عليّ يا رسول الله! فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد كذب علي عامر، وقام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع عامر- رضى الله عنهم- يديه إلى السماء فقال: اللهم! أنزل على نبيك تصديق الصادق منا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: آمين! فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ {فإن يتوبوا يك} أي التوب {خيرًا لهم} فقام الجلاس فقال: يا رسول الله! أسمع الله قد عرض عليّ التوبة، صدق عامر بن قيس فيما قاله، لقد قلته، وانا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه ثم تاب وحسنت توبته.
ولا مانع من أن يكون كل ذلك سببًا لها كما تقدم ويأتي، والأوفق لها في السببية الخبر الأول للتعبير في الكفر بأل المؤذنة بالكمال، ومن شتم نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ارتكب كل كفر، وفي الاية دليل على قبول توبة الزنديق المسر للكفر المظهر للايمان- كما قال أبو حيان وقال: وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: لا تقبل، فإن جاء تائبًا من قبل نفسه من قبل أن يعثر عليه قبلت توبته. اهـ.